- الفصل السادس عشر -
كانت الرقابة قد أصبحت شديدة في الفيسبوك ...
تختفي بعض الفيديوهات التي تنزّل وتختفي
بعض الخيارات التي تصاحب الفيديو أو الصورة مثل الخانتين المخصصتين للتعليق أو الاعجاب.
ووجد الناس الحلّ
.!!
عشرات الصفحات
الجديدة بأسماء تبدو مستعارة وزائفة لا تقول الأسماء الحقيقية لأصحابها فيقدمونها
في شكل كنيات أو غيرها وتكون الصور الملحقة في البروفايل للعلم التونسي أوشعارات
الغضب أوصورها...
وقلت سأجرّب أن
تكون لي صفحة أخرى ...
لا أستطيع أن
أعيش هذا الحراك العظيم وتعوقني هراوة النظام على الانطلاق...
وترددت ... أي اسم
قد يكون بديلا عن اسمي ... فاطمة ...
اسمي هذا الذي أحببته كثيرا وألفته كثيرا ...
وصادقته كثيرا ... اسمي هذا الذي يضرب في عمق التاريخ ويأتي لي
بأفضل الشخصيات النسائية ... كنت أحبه
لأنه اسم ابنة الرسول صلى الله عليه وسلّم
ولأنها كانت أحبّها إلى نفسه
الجميلة كنت أحبّ اسمي لأنه يدغدغ فيّ طفولتي الضائعة وصباي الحالم... اسمي الذي يحمل هويتي وأنفاسي ... اسمي الذي نقشته باتقان مع أسماء شبان مروا ذات
حب عابر بي ... اسمي الذي يرفرف بنجاحاتي
في المدرسة واخفاقاتي في الحب والحياة ... اسمي الذي يكون أحلى عندما تناديني به أمي ... ويبدومضحكا عندما يلثغ به أطفالي في سنواتهم
الأولى... .اسمي الذي كان موضوع قصائد وأغنيات وتتنوّع "تربيجاته " بمختلف
اللهجات والثقافات ... يحلو لكل أصدقائي
التونسيين والعرب أن يقولوا بطرق مختلفة كلها تصنع موسيقى لذيذة في أذني ... وأحب اسمي أكثر ...
لن أستطيع أن
أتخلى عن اسمي... لن أختار آخر...
ستكون لي صفحة
جديدة باسم فاطمة ...
هذا جميل...
اذن سأبحث لي عن
لقب آخر... فقط.
رغم أن اسمي
كاملا هكذا ( فاطمة بن محمود ) ويبدو لي جميلا وموسيقيا ... يعرفني به الجميع بدأت به مسيرتي في الحياة والكتابة وألفه
الكثير حتى إني عندما تزوجت لم أشأ له أبدا
أن يتغيّر أو أن أضيف له حتى مجرد اسم عائلة زوجي، كنت أحب أن أرى نفسي هكذا دون أي إضافة أو إلحاق أنا هكذا فاطمة بن محمود ولن
أنقص منه أو أضيف له شيئا... لكن طبيعة اللحظة تفترض أن أغيرّ شيئا حتى أظل
ثابتة في موقفي من ثورة تشتعل في وطني وتتأجّج في قلبي.
كان يجب أن اختار
لقبا آخر ... وسأختار بشكل اعتباطي أي لقب
...
كان ولدي عزيز في
الغرفة وشعرت أني مثله طفلة صغيرة ضعيفة خائفة بل شعرت أني أشدّ ضعفا وخوفا منه...
وخجلت من نفسي ، مددت ذراعي وطوقته بحنو وأحببت
أن أدفن رأسي في حضنه الصغير ...
هل سيغفر لأمه
ضعفها وخوفها وعجزها؟
لا أدري ...؟
ولكن سيقدّر حتما
ضعفي وسيغفر لي خوفي ... إنه ابني الوديع وأبي
الحنون... ويتفهّم وضعي...
وانتبهت ... لماذا لا أكون ابنته؟
أن أكون فاطمة
عزيز... !
راقت لي الفكرة وهكذا
بسرعة أنجزت صفحة باسم " فاطمة عزيز" وأخذت لي بعض الأصدقاء وبدأت أنزّل
الفيديوهات والصور وأضع التعليقات التي تتّسم بجرعة جرأة أكثر...
ولكن، صدقا ... فشلت في التواصل مع صفحتي المستعارة ... كنت أشعر أنها ليست صفحتي ... أن هذه المرأة ليست أنا ... كأنها غريبة عني ... كأنها أخرى لا أعرفها ... أدخل الصفحة فكأني أتجسّس على امرأة مّا... أرتدي اسمها وأستعير لسانها لأتحدث عوضها وأستدين
منها ملامحها لأخرج بها للناس...
كنت كأني أدخل
بيت امرأة لا أعرفها... عندما أتحدث وأصرخ
وأغادر... أقول كل ذلك خلسة عنها وغصبا عني... ولم أكن مرتاحة...
ما أقسى أن تضطر
في وطنك إلى الاختباء تحت قناع لتقول إنك
تحب وطنك وإن قلبك ... يدمي على وطنك
لتقول إنك تحب
أهل بلدك... وإن روحك ترتعش من المحبة الشديدة
لهم ...
ما أقسى أن تضطر
داخل بلادك أن لا تكون ... أنت.
أربكني ذلك إلى حدّ التوتر.
أزعجني ذلك إلى حدّ
الألم.
عذبني ذلك إلى حدّ
الوجيعة.
ولم أنجح في
التواصل مع تلك الصفحة التي كانت باسم فاطمة عزيز ولم أشعر لحظة أنها صفحتي ومع تلك
المرأة التي لم أحسّ لحظة أنها أنا ومع ذلك الاسم الذي لم أشعر أنه ... لي.
شعرت أني أهين
نفسي أكثر من أن أدافع عنها.
وأني أتخلى عن
نفسي أكثر من أن أحافظ عليها .
ولم أعد
أستطيع أن أنافق نفسي أكثر من ذلك ...
أردت من الصفحة أن
تزيد من رحابة المساحة التي أتحرك بها ولكنها زادت من اختناقي وضيّقت عليّ مساحة
ذاتي ...
لذلك تخليت عن
صفحتي ( الثانية ) تلك وعدت لصفحتي الأولى باسم فاطمة بن محمود ... عدت أعتذر من نفسي لنفسي
أعتذر عن ضعفي وعجزي
وخوفي وارتباكي وضحالتي.
عدت لبيتي
الافتراضي ... الذي هو بيتي الحقيقي ... فيه أجد أناي كما أنا... عدت لاسمي الذي أحبه والذي تربطني به تجربة حياة
وعشرة عمر... الاسم الذي لا أحب غيره ولا
أستكين لسواه...
واخترت أن أتبادل وأصدقائي
على الفايسبوك الفيديوات والصور والتعليقات في شكل رسائل خاصة لا تنشر على حوائط بيوتنا الافتراضية وإنما
نتلقفها في صناديق بريدنا الفيسبوكية ... كنت أرسل لأصدقائي في تونس وخارجها في مصر وفلسطين
والأردن والمغرب وتركيا وسوريا والجزائر والإمارات العربية المتحدة وفي بعض البلدان
الغربية حيث يقيم بعضهم مثل فرنسا والمجر ولندن وألمانيا وغيرها ... وكان أصدقائي العرب عادة ينزّلون في صفحاتهم تلك
الفيديوهات ... هذا رائع وهذا هو المطلوب
منهم مساندتهم لثورة شعبي تعني أن يزيدوا في انتشار صداها إلى أبعد حدّ...
حلّ الظلام بالبيت وعمّ السكون الأرجاء. فوق السرير جسد ضخم، بجانبه جسد نحيف وصغير يكاد لا يظهر؛ يتكوّر على نفسه، كأنّه قط وحيد.
دقات الساعة في الصالون تصلها منتظمة ورتيبة، تفسد الهدوء المحيط بهما. تحاول أن تُلهي نفسها بتتبّع أنفاسه وتماثله في الشهيق والزفير. الآن يملأ الهواء فيعلو صدره الكبير. تملأ، مثله، الهواء. يطلقه من أنفه، ينخفض صدره، فتفعل مثله وتبتسم. أخيرا، أصبح لها جسد يمكن أن تحضنه وأنفاس تتبعها ورجل لها وحدها.
كانت أمها تصرخ في وجهها في ساعات الغضب “ستبقين رهينة في البيت ولن يتزوجك أحد”. تبكي بصمت وهي تتأمل حجمها الصغير وتخجل من النظر في المرآة. اقتربت منه بهدوء؛ كأنها تريد أن تؤكد لنفسها أنها لم تعد رهينة في البيت الذي غادرته ولن تعود إليه.
تحسّست بكفها وجهه وتلمّست ندبا غائرا لجرح قديم على فكه الأيسر يعود لطيش الشباب. اختبأ الجرح تحت شعر لحيته. سيف لا يريد أن يتذكر أن هذا الجرح سببُه بائعة هوى. ظهرت، في ذلك المساء البعيد، في أحد أزقة ساحة برشلونة فاندفع نحوها. وجد نفسه وسط شبان لا يعرفهم لكنهم كانوا، مثله، تقودهم رغبة شرسة نحوها، تمكّنت منهم فحوّلتهم إلى كائنات متوحشة. كل واحد منهم يريد أن يكون أول من يفتتحها وتهدأ أنفاسه بين فخذيها. لم يهتم أحد بأمر بائعة الهوى ولم يسألها أحد عن رأيها، إن كانت ترى في من تجمهروا حولها رجالا يملكون نقودا لها أو ذئابا ينهشون جسدها ويرحلون. لا تطيق أن تكون ضحية، ولم يهتم أحد بنظراتها الفزعة؛ كأنها لم تعد إنسانا وتحوّلت إلى إناء كل يريد الانفراد به.
كانت الشتائم والسباب ترتفع بينهم وهم يتدافعون حولها، ثم تشابكوا. امتدت قبضته إلى وجه أحدهم. وبسرعة خاطفة، رد عليه بضربة مشرط، فترك جرحا غائرا في فكه. ينزعج سيف من كل من يسأله عن هذا الجرح، وراقه أن يمتد شعر لحيته فيغطيه و لم يعد الناس ينتبهون إليه. من حكمة اللحية أنها تميز المسلم الحقيقي ومن محاسنها له أنها تستر عيبه وتغطي ماضيه السيئ. يتذكر جيدا كيف أنه تفاجأ بأن اللحية نفسها كانت موضوع خلاف شديد بين رجال الدين، يتنازعون حول القول بتحريمها أو إباحتها أو كراهيتها. لم يفهم إلى الآن كيف يمكن للحية بسيطة أن تكون موضوع جدل حادّ. بالنسبة إليه أطلق لحيته على عادة السلف الصالح واقتداء بإخوته في الإسلام. وقد راقه أن يكون ذلك مخالفة للكفّار، لذلك تميزه لحيته عن جيرانه وأصدقائه القدامى، فالكفار لا يخلو منهم زمن.
رفعت كفها إلى رأسه، ثم عادت إلى الجرح القديم تتحسّسه بأناملها، تُبعد شعر لحيته وتقتفي بسبابتها خط الجرح وتضغط عليه بلطف. تململ منزعجا وقال لها، دون أن يفتح عينيه “أبعدي يدك عني”. كان ذلك كافيا لأن يجعلها ترفع كفها عن الجرح المخفي وتمدها في اتجاه شاربه المحلوق. بلطف شديد، أخذت تداعب بأناملها شفتيه الغليظتين. الحرارة التي بدأت تسري في جسده جعلته يتململ قليلا. فتح عينيه وهو يقول:
– ماذا تريدين؟
كان ذلك كافيا لتستيقظ رغبته وتشعّ في ظلام الغرفة. لم تعد تهتمّ بدقات الساعة الرتيبة التي تصلها من الصالون. صارت في حالة أخرى لا يصلح فيها أن تتذكر ملامحها في المرآة ولا أن تستحضر صوت أمها وهي تصرخ بها “ستبقين رهينة في البيت”. كانت في حالة لا تُحسن وصفها. الرغبة تعدو بهما مثل حصان جامح وشعرت بأنها ترتفع إلى الأعلى، تكاد تلامس سقف الغرفة. عند ذاك سقط ماء في مجرى بحوضها وانبثقت حياة في نفق مظلم بجدران رطبة ولزجة.
– يا لَحظّيَ الجميل.!
هتف الحيوان المنوي المحظوظ:
– كم يبدو مثيرا ورائعا أن أحظى بفرصة حياة لن يسرقها منّي أحدٌ!
عندما انشغل الحيوان المنوي داخل البويضة بلعبة التقسيمات الممتعة كان في شوق كبير لما ينتظره. قال بزهو: الآن تُصنع حياتي!
وهو غافل عما سيحدث له لاحقا.!